فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً}.
دليل على كمال قدرته؛ أي من قَدَر على هذا قَدَر على إعادة الحياة بعد الموت؛ كما قال الله عز وجل: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ} [فصلت: 39].
ومثله كثير.
{فتُصبِحُ} ليس بجواب فيكون منصوبًا، وإنما هو خبر عند الخليل وسيبويه.
قال الخليل: المعنى انْتَبِه! أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا؛ كما قال:
ألم تسأل الرَّبْع القَوَاء فيَنْطِقُ ** وهل تُخْبِرَنْكَ اليوم بَيْدَاءُ سَمْلَقُ

معناه قد سألته فنطق.
وقيل استفهام تحقيق؛ أي قد رأيت، فتأمل كيف تصبح! أو عطف لأن المعنى ألم تر أن الله ينزل.
وقال الفراء: {ألم تر} خبر؛ كما تقول في الكلام: اِعلم أن الله عز وجل ينزل من السماء ماء.
{فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} أي ذات خضرة؛ كما تقول: مُبْقِلة ومُسْبِعَة؛ أي ذات بقل وسباع.
وهو عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة.
قال ابن عطية: وروي عن عكرمة أنه قال: هذا لا يكون إلا بمكة وتِهامة.
ومعنى هذا: أنه أخذ قوله: {فتصبِح} مقصودًا به صباح ليلة المطر، وذهب إلى أن ذلك الاخضرار يتأخر في سائر البلاد، وقد شاهدت هذا بسُوسِ الأقصى نزل المطر ليلًا بعد قحط أصبحت تلك الأرض الرملة التي نسفتها الرياح قد اخضرت بنبات ضعيف رقيق.
{إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ} قال ابن عباس: {خبير} بما ينطوي عليه العبد من القنوط عند تأخير المطر.
{لطيف} بأرزاق عباده.
وقيل: لطيف باستخراج النبات من الأرض، خبير بحاجتهم وفاقتهم.
قوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السماوات وما فِي الأرض} خلقًا وملكًا؛ وكلٌّ محتاج إلى تدبيره وإتقانه.
{وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني الحميد} فلا يحتاج إلى شيء، وهو المحمود في كل حال.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَا فِي الأرض} ذكر نعمة أخرى، فأخبر أنه سخر لعباده ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار.
{والفلك} أي وسخّر لكم الفلك في حال جريها.
وقرأ أبو عبد الرحمن الأعرج {والفُلُك} رفعا على الابتداء وما بعده خبره.
الباقون بالنصب نسقًا على قوله: {ما في الأرض}.
{وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض} أي كراهية أن تقع.
وقال الكوفيون: لئلا تقع.
وإمساكه لها خلق السكون فيها حالًا بعد حال.
{إِلاَّ بِإِذْنِهِ} أي إلا بإذن الله لها بالوقوع، فتقع بإذنه، أي بأرادته وتخليته.
{إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} أي في هذه الأشياء التي سخرها لهم.
قوله تعالى: {وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ} أي بعد أن كنتم نُطَفًا.
{ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم.
{ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} أي للحساب والثواب والعقاب.
{إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} أي لجحود لما ظهر من الآيات الدالة على قدرته ووحدانيته.
قال ابن عباس: يريد الأسود بن عبد الأسد وأبا جهل بن هشام والعاص بن هشام وجماعةً من المشركين.
وقيل: إنما قال ذلك لأن الغالب على الإنسان كفر النعم؛ كما قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13]. اهـ.

.قال أبو حيان:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً}.
لما ذكر تعالى ما دل على قدرته الباهرة من إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل وهما أمران مشاهدان مجيء الظلمة والنور، ذكر أيضًا ما هو مشاهد من العالم العلوي والعالم السفلي، وهو نزول المطر وإنبات الأرض وإنزال المطر واخضرار الأرض مرئيان، ونسبة الإنزال إلى الله تعالى مدرك بالعقل.
وقال أبو عبد الله الرازي: الماء وإن كان مرئيًّا إلاّ أن كون الله منزله من السماء غير مرئي إذا ثبت هذا وجب حمله على العلم، لأن المقصود من تلك الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل.
وقال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل فأصبحت ولم صرف إلى لفظ المضارع؟ قلت: لنكتة فيه وهي إفادة بقاء أثر المطر زمانًا بعد زمان.
كما تقول أنعم على فلان عام كذا، فأروح وأغدو شاكرًا له.
ولو قلت فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع.
فإن قلت: فما باله رفع ولم ينصب جوابًا للاستفهام؟ قلت: لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض، لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار مثاله أن تقول لصاحبك: ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه، وإن رفعته فأنتم مثبت للشكر هذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله.
وقال ابن عطية: وقوله: {فتصبح الأرض} بمنزلة قوله فتضحى أو تصير عبارة عن استعجالها أثر نزول الماء واستمرارها كذلك عادة ووقع قوله: {فتصبح} من حيث الآية خبرًا، والفاء عاطفة وليست بجواب لأن كونها جوابًا لقوله: {ألم تر} فاسد المعنى انتهى.
ولم يبين هو ولا الزمخشري كيف يكون النصب نافيًّا للاخضرار، ولا كون المعنى فاسدًا.
وقال سيبويه: وسألته يعني الخليل عن {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} فقال: هذا واجب وهو تنبيه.
كأنك قلت: أتسمع أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا.
قال ابن خروف، وقوله فقال هذا واجب، وقوله فكان كذا يريد أنهما ماضيان، وفسر الكلام بأتسمع ليريك أنه لا يتصل بالاستفهام لضعف حكم الاستفهام فيه، ووقع في الشرقية عوض أتسمع انتبه انتهى.
ومعنى في الشرقية في النسخة الشرقية من كتاب سيبويه.
وقال بعض شراح الكتاب {فتصبح} لا يمكن نصبه لأن الكلام واجب ألا ترى أن المعنى {أن الله أنزل} فالأرض هذا حالها.
وقال الفراء {ألم تر} خبر كما تقول في الكلام اعلم أن الله يفعل كذا فيكون كذا انتهى.
ويقول إنما امتنع النصب جوابًا للاستفهام هنا لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهام وإن كان يقتضي تقريرًا في بعض الكلام هو معامل معاملة النفي المحض في الجواب ألا ترى إلى قوله: {ألست بربكم قالوا بلى} وكذلك في الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب، فإذا قلت: ما تأتينا فتحدثنا بالنصب، فالمعنى ما تأتينا محدثًا إنما يأتي ولا يحدث، ويجوز أن يكون المعنى إنك لا تأتي فكيف تحدث، فالحديث منتفٍ في الحالتين والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته الهمزة، وينتفي الجواب فيلزم من هذا الذي قررناه إثبات الرؤية وانتفاء الاخضرار وهو خلاف المقصود.
وأيضًا فإن جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام السابق شرط وجزاء فقوله:
ألم تسأل فتخبرك الرسوم

يتقدر أن تسأل فتخبرك الرسوم، وهنا لا يتقدر أن ترى إنزال المطر تصبح الأرض مخضرة لأن اخضرارها ليس مترتبًا على علمك أو رؤيتك، إنما هو مترتب على الإنزال، وإنما عبر بالمضارع لأن فيه تصويرًا للهيئة التي الأرض عليها، والحالة التي لابست الأرض، والماضي يفيد انقطاع الشيء وهذا كقول جحدر بن معونة العكلي، يصف حاله مع أشد نازلة في قصة جرت له مع الحجاج بن يوسف:
يسمو بناظرتين تحسب فيهما ** لما أجالهما شعاع سراج

لما نزلت بحصن أزبر مهصر ** للقرن أرواح العدا محاج

فأكر أحمل وهو يقعي باسته ** فإذا يعود فراجع أدراجي

وعلمت أني إن أبيت نزاله ** أني من الحجاج لست بناجي

فقوله: فأكر تصوير للحالة التي لابسها.
والظاهر تعقب اخضرار الأرض إنزال المطر وذلك موجود بمكة وتهامة فقط قاله عكرمة وأخذ تصبح على حقيقتها أي: تصبح، من ليلة المطر.
وذهب إلى أن الاخضرار في غير مكة وتهامة يتأخر.
وقال ابن عطية: وقد شاهدت هذا في السوس الأقصى نزل المطر ليلًا بعد قحط فأصبحت تلك الأرض الرملة التي قد نسفتها الرياح قد اخضرّت بنبات ضعف انتهى.
وإذا جعلنا {فتصبح} بمعنى فتصير لا يلزم أن يكون ذلك الاخضرار في وقت الصباح، وإذا كان الاخضرار متأخرًا عن إنزال المطر فثم جمل محذوفة التقدير، فتهتز وتربو فتصبح يبين ذلك قوله تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت} وقرئ {مخضرة} على وزن مفعلة ومسبعة أي ذات خضر، وخص تصبح دون سائر أوقات النهار لأن رؤية الأشياء المحبوبة أول النهار أبهج وأسر للرائي.
{إن الله لطيف} أي باستخراج النبات من الأرض بالماء الذي أنزله {خبير} بما يحدث عن ذلك النبت من الحب وغيره.
وقيل {خبير} بلطيف التدبير {خبير} بالصنع الكثير.
وقيل: {خبير} بمقادير مصالح عباده فيفعل على قدر ذلك من غير زيادة ولا نقصان.
وقال ابن عباس {لطيف} بأرزاق عباده {خبير} بما في قلوبهم من القنوط.
وقال الكلبي {لطيف} بأفعاله {خبير} بأعمال خلقه.
وقال الزمخشري {لطيف} وأصل علمه أو فضله إلى كل شيء {خبير} بمصالح الخلق ومنافعهم.
وقال ابن عطية: واللطيف المحكم للأمور برفق.
{ما في الأرض} يشمل الحيوان والمعادن والمرافق.
وقرأ الجمهور {والفلك} بالنصب وضم اللام ابن مقسم والكسائي عن الحسن، وانتصب عطفًا على {ما} ونبه عليها وإن كانت مندرجة في عموم ما تنبيهًا على غرابة تسخيرها وكثرة منافعها، وهذا هو الظاهر.
وجوز أن يكون معطوفًا على الجلالة بتقدير وأن {الفلك} وهو إعراب بعيد عن الفصاحة و{تجري} حال على الإعراب الظاهر.
وفي موضع الجر على الإعراب الثاني.
وقرأ السلمي والأعرج وطلحة وأبو حيوة والزعفراني بضم الكاف مبتدأ وخبر، ومن أجاز العطف على موضع اسم إن أجازه هنا فيكون {تجري} حالًا.
والظاهر أن {أن تقع} في موضع نصب بدل اشتمال، أي ويمنع وقوع السماء على الأرض.
وقيل هو مفعول من أجله يقدره البصريون كراهة {أن تقع} والكوفيون لأن لا تقع.
وقوله: {إلا بإذنه} أي يوم القيامة كأن طي السماء بعض هذه الهيئة لوقوعها، ويجوز أن يكون ذلك وعيدًا لهم في أنه إن أذن في سقوطها كسفًا عليكم سقطت كما في قولهم: أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا و{إلا بإذنه} متعلق بـ {أن تقع} أي {إلاّ بإذنه} فتقع.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يعود قوله: {إلاّ بإذنه} على الإمساك لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه، فكأنه أراد إلاّ بإذنه فيه يمسكها انتهى.
ولو كان على ما قاله ابن عطية لكان التركيب بإذنه دون أداة الاستثناء أي يكون التقدير ويمسك السماء بإذنه.
{وهو الذي أحياكم} أي بعد أن كنتم جمادًا ترابًا ونطفة وعلقة ومضغة وهي الموتة الأولى المذكورة في قوله تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم} و{الإنسان}.
قال ابن عباس: هو الكافر.
وقال أيضًا: هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل وأُبيّ بن خلف.
وهذا على طريق التمثيل.
{لكفور} لجحود لنعم الله، يعبد غير من أنعم عليه بهذه النعم المذكورة وبغيرها. اهـ.

.قال أبو السعود:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء}.
استفهامٌ تقريريٌّ كما يفصح عنه الرَّفعُ في قوله تعالى: {فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} بالعطف على أنزلَ، وإيثار صيغةَ الاستقبالِ للإشعارِ بتجدُّدِ أثرِ الإنزالِ واستمرارِه أو لاستحضارِ صورةِ الاخضرارِ {إِنَّ الله لَطِيفٌ} يصل لطفُه أو علمُه ألى كلِّ ما جلَّ ودقَّ {خَبِيرٌ} بما يليقُ من التَّدابيرِ الحسنةِ ظاهرًا وباطنًا.
{لَّهُ مَا فِي السماوات وما فِي الأرض} خَلْقًا ومُلْكًا وتصَرُّفًا {وَإِنَّ الله لَهُوَ الغنى} عن كلِّ شيءٍ {الحميد} المستوجبُ للحمدِ بصفاته وأفعاله.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَا في الأرض} أي جعلَ ما فيها من الأشياءِ مذلَّلةً لكم معدَّةً لمنافعكم تتصرَّفون فيها كيفَ شئتم فلا أصلبَ من الحجرِ ولا أشدَّ من الحديدِ ولا أهيبَ من النَّارِ وهي مسخَّرةٌ لكم. وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعولِ الصَّريحِ لما مرَّ مرارًا من الاهتمامِ بالمقدَّمِ لتعجيل المسرَّةِ والتِّشويقِ إلى المؤخَّرِ {والفلك} عطفٌ على مَا، أو على اسمِ أنَّ. وقرئ بالرَّفعِ على الابتداء {تَجْرِى في البحر بِأَمْرِهِ} حالٌ من الفلك على الأوَّلِ وخبرٌ على الأخيرينِ {وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض} أي من أن تقعَ أو كراهةَ أن تقع بأنْ خلقَها على هيئةٍ متداعيةٍ إلى الاستمساك {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} أي بمشيئته وذلك يومُ القيامةِ وفيه ردٌّ لاستمساكها بذاتها فإنَّها مساويةٌ في الجسميَّةِ لسائر الأجسامِ القابلةِ للميلِ الهابط فتقبله كقبولِ غيرِها {إِنَّ الله بالناس لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} حيث هيَّأ لهم أسبابَ معاشِهم وفتحَ عليهم أبوابَ المنافعِ وأوضح لهم مناهجَ الاستدلالِ بالآيات التَّكوينيةِ والتَّنزيليةِ.
{وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ} بعد أنْ كنتُم جمادًا عناصرَ ونطفًا حسبما فُصِّل في مطلع السُّورةِ الكريمة {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند مجيء آجالِكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} عند البعثِ {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} أي جَحودٌ للنِّعمِ مع ظهورِها وهذا وصف للجنس بوصف بعضِ أفرادِه. اهـ.